ثقافة في المسابقة الرسمية لمهرجان كان: "مجرد حادث" لجعفر بناهي: حدث فني وسياسي راق... بقلم الناقد طاهر الشيخاوي

بقلم الناقد طاهر الشيخاوي
من منّا لم يكن ينتظر "مجرد حادث" لجعفر بناهي ؟ ومن لم يشعر بالمتعة والإعجاب أمام عمل سينمائي في هذا المستوي من الرقي، عمل خال من الألاعيب التي توفّرها بسهولة تقنيات الفبركة والامكانيات البلاغية للصورة. هذا فضلا عن الجرأة والشجاعة التي عوّدنا عليها جعفر بناهي في سياق سياسي يعلمه الجميع.
الحكاية بسيطة جدّا في ظاهرها : رجل تعرض سابقا للتعذيب اِثر مشاركته في حركة اجتماعية يعترض فجأة جلاّدَه. يقرّر دون تردّد اختطافه والانتقام منه انتقاما يشفي غليله. يلطمه بباب سيّارته ويحمله بعيدا لدفنه حياّ. ولكن اختلّ عزمُه لما أراد التأكّد من هويته، انتابه الشك، فأصرّ على التثبت منها، قبل قتله، لدى سجناء من رفاقه. تلك هي الحبكة الدرامية. مُصوِّرة (هل صدفة هي مسألة المصوّرات المناضلات هذه السّنة ؟) ورجل وامرأة من قدماء المساجين كانا يتهيآن للصورة إعدادا للزواج. من هنا تبدأ النقاشات بين أعضاء المجموعة حول كيفية القيام بالعملية ومشروعيتها الأخلاقية، نقاشات وخلافات تتعقد لما تتعرف المجموعة على عائلة الجلاّد وتكتشف أنّ زوجته الحامل على وشك الوضع.
جعفر بناهي سينمائي بارع، يتقن حبك الوضعيات الدرامية التي تمكّن من تعميق السؤال وتقتضي في الوقت ذاته اللجوء إلى آليات اللغة السينمائية كتابة وإخراجا.
ثلاثة عناصر أساسية يرتكز عليها الشريط : السيارة طبعا وهي البيت (الحجرة المظلمة camera oscura) الحاضن والحامي من العنف المسلّط على الشارع.
السّيارة تجوب الفضاء، تتنقل من مكان إلى مكان بالمعنى الأول والمعنى المجازي. فكلّما قطعنا مسافة في الفضاء تقدمنا في التدرج الفكري. تنقّل مبني على مفارقة مُؤسِّسة للسينما : التقدم مع البقاء في نفس المكان. يصبح حينها السفر (كما هو الشأن لدى كيارستامي الذي اشتغل معه وتعلم إلى جانبه بناهي) حركة ذهنية محرّكة للدراما.
والمسألة الثالثة والأساسية تتعلق بالهوية : كيف التأكد من هويّة الشخصية، وجها وجسدا، وهي قضية سياسية أخلاقية وسينمائية. من هنا تأتي ضرورة آلة التّصوير. وأن تكون المصوّرة امرأة يزيد الأمر معاصرةً. نعلم أهمية رسم ملامح الوجه وعلاقة هذه الملامح مع تضاريس الفضاءات لدى كيارستامي ولكن الأمر يختلف عن هواجس كيارستامي التشكيلية لأنّ شخصية الجلاّد تحمل في جسدها آثارا تُحيل على مرجعية سياسية. فهو يحمل طرفا اصطناعيا بسبب إصابة تلقاها في سوريا أثناء قتاله مع النظام القائم هنالك.
علاقة باناهي مع المؤسسات (السجن والمستشفى) تكتسي أهمية قصوى في أعماله، لذلك كان التنقل (في إمكانيته وصعوبته) أساسيا. فليس من الفلكلور أبدا أن يُسجن معاقٌ في سيّارة وأن يعسر البحث عن الحقيقة وأن تعيق الاعتبارات الأخلاقية الرغبة في التشفي...
في الصحافة الفرنسية التي تهوى التّكهنات كثر الحديث عن فيلم بناهي، وعن احتمال تحصّله على السعفة الذهبية (خاصّة أنّ رئيسة لجنة التحكيم جولييت بينوش تُكن عطفا واحتراما عميقين لكيارستامي). أهمية الجوائز تكمن طبعا في أبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية ولكنها ليست دائما معيارا فنيّا وفكريّا.
أمّا "مجرد حادث" فهو ببساطة فيلم راق فنيّا وعميق فكريا وجريء سياسيا.